الجنيد بن محمد بن الجنيد
أبو القاسم الخزاز، و يقال له القواريري، أصله من نهاوند، ولد ببغداد و نشأ بها. و سمع الحديث من الحسين بن عرفة. و تفقه بأبي ثور إبراهيم بن خالد الكلبي، و كان يفتى بحضرته و عمره عشرون سنة، و قد ذكرناه في طبقات الشافعية، و اشتهر بصحبة الحارث المحاسبي، و خاله سرى السقطي، و لازم التعبد، ففتح الله عليه بسبب ذلك علوما كثيرة، و تكلم على طريقة الصوفية. و كان ورده في كل يوم ثلاثمائة ركعة، و ثلاثين ألف تسبيحة. و مكث أربعين سنة لا يأوى إلى فراش، ففتح عليه من العلم النافع و العمل الصالح بأمور لم تحصل لغيره في زمانه، و كان يعرف سائر فنون العلم، و إذا أخذ فيها لم يكن له فيها وقفة و لا كبوة، حتى كان يقول في المسألة الواحدة وجوها كثيرة لم تخطر للعلماء ببال، و كذلك في التصوف و غيره. و لما حضرته الوفاة جعل يصلى و يتلو القرآن، فقيل له: لو رفقت بنفسك في مثل هذا الحال؟ فقال: لا أحد أحوج إلى ذلك منى الآن، و هذا أوان طى صحيفتي. قال ابن خلكان: أخذ الفقه عن أبى ثور و يقال: كان يتفقه على مذهب سفيان الثوري، و كان ابن سريح يصحبه و يلازمه، [و ربما استفاد منه أشياء في الفقه لم تخطر له ببال، و يقال: إنه سأله مرة عن مسألة، فأجابه فيها بجوابات كثيرة، فقال: يا أبا القاسم أ لم أكن أعرف فيها سوى ثلاثة أجوبة مما ذكرت، فأعدها على. فأعادها بجوابات أخرى كثيرة. فقال: و الله ما سمعت هذا قبل اليوم، فأعده. فأعاده بجوابات أخرى غير ذلك، فقال له: لم أسمع بمثل هذا فأمله عليّ حتى أكتبه. فقال الجنيد: لئن كنت أجريه فأنا أمليه، أي إن الله هو الّذي يجرى ذلك على قلبي و ينطق به لساني، و ليس هذا مستفاد من كتب و لا من تعلم، و إنما هذا من فضل الله عز و جل يلهمنيه و يجريه على لساني. فقال: فمن أين استفدت هذا العلم؟ قال: من جلوسي بين يدي الله أربعين سنة. و الصحيح أنه كان على مذهب سفيان الثوري و طريقه و الله أعلم].
و سئل الجنيد عن العارف؟ فقال: من نطق عن سرك و أنت ساكت. و قال: مذهبنا هذا مقيد بالكتاب و السنة، فمن لم يقرأ القرآن و يكتب الحديث لا يقتدى به في مذهبنا و طريقتنا.
و رأى بعضهم معه مسبحة فقال له: أنت مع شرفك تتخذ مسبحة؟ فقال: طريق وصلت به إلى الله لا أفارقه. و قال له خاله السري: تكلم على الناس. فلم ير نفسه موضعا. فرأى في المنام رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له: تكلم على الناس. فغدا على خاله، فقال له: لم تسمع منى حتى قال لك رسول الله صلى الله عليه و سلّم: فتكلم على الناس، فجاءه يوما شاب نصراني في صورة مسلم، فقال له: يا أبا القاسم ما معنى قول النبي صلى الله عليه و سلّم: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله»؟ فأطرق الجنيد، ثم رفع رأسه إليه و قال: أسلم فقد آن لك أن تسلم: قال فأسلم الغلام. و قال الجنيد: ما انتفعت بشيء انتفاعى بأبيات سمعتها من جارية تغني بها في غرفة و هي تقول:
إذا قلت: أهدى الهجرلى حلل البلى
تقولين: لو لا الهجر لم يطب الحب
و إن قلت: هذا القلب أحرقه الجوى
تقولين لي: إن الجوى شرف القلب
و إن قلت: ما أذنبت، قالت مجيبة:
حياتك ذنب لا يقاس به ذنب
قال: فصعقت و صحت، فخرج صاحب الدار فقال: يا سيدي مالك؟ قلت: مما سمعت. قال:
هي هبة منى إليك. فقلت: قد قبلتها و هي حرة لوجه الله. ثم زوجتها لرجل، فأولدها ولدا صالحا حج على قدميه ثلاثين حجة.